المشــــــــــــاهدات

الأربعاء، مايو 02، 2012

الرسالة البحرية


كتبها إلى الشيخ بدر الدين الدماميني وقد سار من ثغر طرابلس إلى ثغر الإسكندرية في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة:

يا مولانا وأبثك ما لقيت من أهوال هذا البحر وأحدث عنه ولا حرج، فكم وقع المملوك في أعاريضه في زحافٍ تقطّع منه القلب لما دخل إلى دوائر اللجّ، وشاهدت منه سلطاناً جائراً يأخذ كل سفينة غصباً، ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تسبي، فتحققت أن رأى من رجاء يسمى في الفلك جالساً غير صائب، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب، وزاد الظمأ بالمملوك وقد أتخذ بالبحر سبيلاً، وكم قلت من شدة الظمأ يا ترى قبل الحفرة هي أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة.
وهل أباكر بحر النيل منشرحاً وأشرب الحلو من أكواب ملاح
بحر تلاطمت علينا أمواجه حين متنا من الخوف وحملنا على نعش الغراب، وقامت واوات دوائره مقامع فنصبتنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب، وقارن العبد فيه سوداء استرقت موالينا وهي جارية، وغشيهم منها ما غشيهم فهل أتاك حديث الغاشية، واقعها الحرب فحملت بنا ودخلها الماء فجاءها المخاض، وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب وفاض، وتوشحت بالسواد في هذا الماء ثم سارت على البحر وهي مثل، كم سمع للمغاربة على ذلك التوشيح زجل، برح ما بين ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت، وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عدَّ من المتصبرين في تابوت، تأتي بالطباق ولكن بالقلوب لأن صغيرها كبير وبياضها سواد، وتمشي على الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد، إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود، ورقص على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود، نتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء، وكم نطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء، فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين، وتتصابى إذا هبت للصبا وهي بنت أربعمائة وثمانين، وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال، وتدعي براءة الذمة وكم استغرقت لهم من أموال، هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج، وكم وجلت القلوب لما صار لأهداب مجاديفها في مقلة البحر احتلاج، وكم أسبلت على وجنته طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها، وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها، تتعاضم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد، ولقد رأيناها بعد ذلك قد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد، وخلص المملوك من كدر المالح إلى النيل المبارك فوجده من أهل الصفا وإخوان الوفا، وتنصّل من ذلك العدو الأزرق ذي الباطن الكدر، وجمع من عذوبة النيل ونضارة شطوطه بين عين الحياة والخصر، وتلا لسان الحال على المملوك وأصحابه أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين وقضي الأمر، وقيل بعداً للقوم الظالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق