المشــــــــــــاهدات

الثلاثاء، مايو 22، 2012

كلام الأعلم الشنتمري على الضرورات الشعرية

وهو الإمام اللغوي البارع أبو الحجّاج يوسف بن سليمان بن عيسى المعروف بـ(الأعلم الشنتمري)، وإنما قيل له الأعلم؛ لأنه كان مشقوق الشفةِ العليا، وقد غلبَ لقبُه هذا على اسمه، ونسبتُه إلى (شنتمرية) وهي حصنٌ من حصون الأندلس توجد الآن بدولةِ (البرتغال) تتلمذ على مشايخَ عدة، وله تلاميذ كثر، وهو شارحُ كتابِ سيبويه، ومن أشهرِ مصنفاتِه: (أشعار الشعراء الستة الجاهليّين) وكتاب (النكت في تفسيرِ كتاب سيبويه) و(شرح حماسة أبي تمام) وغيرها توفي عام 476هـ .
قال ـ رحمه الله ـ في (باب ما يحتمل الشعر): " اعلم أن سيبويه ذكرَ في الباب جملةً من ضرورةِ الشعر؛ ليُري الفرقَ بين الكلام والشعر ولم يتقصّه؛ لأنه لم يكن غرضُه القصدَ إلى ذلك نفسِه" (النكت في تفسير كتاب سيبويه:34) .
ثم بسطَ الأعلمُ الكلامَ على هذه الضرورات فقال: " اعلم أن ضرورة الشعر تسعةُ أوجه وهي: الزيادة، والنقصان، والحذف، والتقديم، والتأخير، والإبدال، وتغييرُ وجهٍ من الإعراب إلى وجهٍ آخر على طريقِ التشبيه، وتأنيث المذكّر، وتذكير المؤنّث .
فمن الزيادة: ما يزدادُ في القوافي للإطلاق، وهي الواو بعد الضمة، والياءُ بعد الكسرة، والألف بعد الفتحة، ويجوزُ أن يجعلَ مكان الواو والياء والألف والنون، والنون لا يُوقفُ عليها إلا في قوافي الشعر، وأما حروفُ المد فقد يُوقفُ عليهن في الكلام عوضاً عن التنوين، كقولك: هذا زيدو، ومررتُ بزيدي، ورأيتُ زيداً، وإنما زيدت هذه الزيادة في الشعر في القوافي؛ لأنهم يترنمون به ويحدون، ويقعُ فيه تطريبٌ لا يتم إلا بمد الحرف ...
ـ وأجاز الكوفيون والأخفشُ تركَ صرفِ ما ينصرف، وأباه سيبويه وأكثرُ البصريين؛ لأنه ليس لمنعِ صرفِ ما ينصرفُ أصلٌ يرد إليه الاسم ...
ـ ومن الزيادة: زيادةُ الحركةِ على ما ينبغي أن يكون استعمالُ اللفظِ عليه، وهو إظهارُ المدغم كقولك في رادّْ: رادِدْ؛ لأنه فاعل، وكما قال:
* أنـّي أجودُ لأقوامٍ وإن ضننوا * والمستعمل: ضنُّوا .
باب الحذفـ اعلم أن الشاعرَ يحذفُ ما لا يجوزُ في الكلام؛ لتقويمِ الشعر، كما يزيد لتقويمه، فمن ذلك: ما يُحذفُ من القوافي الموقوفة من تخفيفِ المشدّد، كقول امرىءِ القيس:
* أصحوتَ اليومَ أم شاقتْك هرْ *
ـ ومن الحذفِ: قصرُ الممدود، وكلُّهم مجمعون على جوازه غيرَ أن الفرّاءَ يشترطُ فيه شروطاً يُهملُها غيرُه، والبصريون مجمعون على منعِ مدّ المقصور .
بابُ البدلـ اعلم أنهم يُبدلون الحرفَ من الحرف في الشعر في الموضعِ الذي يُبدَلُ مثلُه في الكلام لمعنىً يُحاولونه من تحريكِ ساكن، أو تسكين متحرك؛ ليستوي وزنُ الشعرِ به، أو رد شيءٍ إلى أصله، أو تشبيهٍ له بنظيره، فمن ذلك قوله:
قد كان يذهبُ بالدنيا ولذّتِها موالـيٌ ككباشِ العوسِ سحّاحُ .
فضمّ الياءَ؛ لاستقامةِ البيتِ، ومثله:
لها أشاريرُ من لحمٍ تتمرُهُ من الثعالي ووخزٍ من أرانيها .
أرادَ من (أرانبِها) ومن (الثعالب) .
فلما اضطرّ إلى تسكينِ الباء أبدلَ منها حرفاً لا يحرك، وشبهه بقولهم: (تظنّيتُ) و(تقصّيت).
ومن ذلك: بدلُ الأسماءِ الأعلام، فأما ما يجوزُ في الكلام والشعر فنحوُ: تصغيرِ الاسمِ العلم الذي يُعرَفُ بغيرِ تصغير كقولك في عبدِالله: عبيد الله .
وأما ما يجوزُ في الشعرِ ولا يجوزُ في الكلام:فأن تُبدلَ اسماً من الاسمِ المعروف كقول الحطيئة:
فيهِ الرماحُ وفيهِ كلُّ سابغةٍ بيضاءَ محكمةٍ من نسجِ سلاّمِ
أراد: (سليمان) .
وقد يُبدلُ الشاعرُ بعضَ حروفِ الجر مكانَ بعضٍ، وليس ذلك من الضرورة كما قال:
* إذا رضيتْ عليّ بنو قشيرٍ *
وقال النابغة: * كأنّ رحلي وقد زالَ النهارُ بنا * أرادَ: (عنا) ومثلُ هذا كثير .
ومن أقبحِ الضرورات: جعْلُ الألفِ واللامِ بمعنى (الذي) مع الفعلِ كقولك: جاءني اليقومُ تريدُ: الذي يقوم .
ومن ذلك أن كافَ التشبيهِ لا يتصلُ بها مكنيٌّ في الكلام، وإنما يجوزُ ذلك في الشعر .
قال العجّاج: * وأمُّ أوعالٍ كها أو أقربا *
بابُ التقديم والتأخيرـ اعلم أن الشاعرَ ربما يضطرُّ حتى يضعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه الذي ينبغي أن يُوضعَ فيه، ويُزيلُهُ عن قصدِهِ الذي لا يحسُنُ في الكلامِ غيرُه، ويعكِسُ الإعرابَ، فيجعلُ المفعولَ فاعلاً، والفاعلَ مفعولاً، وأكثرُ ذلك فيما لا يُشكِلُ معناه، فمن ذلك قولُ الأخطل:
مثلُ القنافذِ هدّاجون قد بلَغتْ نجرانُ أو بلغتْ سوآتِهم هجرُ .
أراد: بلغتْ نجرانَ سواتُهم أو هجرَ، فقلبَ الإعراب؛ لأن المعنى لا يُشكِل .
ومن ذلك: تأخيرُ المضافِ إليه عن موضعِه، والفصلُ بينه وبين المضافِ بالظرفِ وحرفِ الجر تشبيهاً بأن وأخواتِها حيث فصل بينها وبين اسمِها بالظرف، قال ذو الرمّة:
كأنّ أصواتَ من إيغالِهنّ بنا أواخرَ الميسِ أصواتُ الفراريجِ
بابُ تأنيث المذكر وتذكير المؤنث
فمن ذلك: قولُ عمرَ بنِ أبي ربيعة:
* فكانَ مجنّي دونَ من كنتُ أتّقي ثلاثُ شخوصٍ كاعبانِ ومعصرُ .
فحذفَ الهاءَ من ثلاثة على أن واحدَ الشخوصِ مذكّرٌ، ولكنه ذهب به مذهبَ النسوة؛ لأنهنّ كنّ ثلاثَ نسوة، وقال الشاعر في تذكيرِ ما ينبغي تأنيثُه:
* فلا مـزنـةٌ ودقـتْ ودقَها ولا أرضَ أبقلَ إبقالَها .
أراد: ولا أرضَ أبقلتْ، ولكنه تأول بالأرضِ المكانَ فذكّر لذلك .
وهذا البابُ إذا تقدمَ الفعلُ فيه لم يُستقبحْ تذكيرُ المؤنثِ فيما ليس بحيوان، كقوله:
)وأخذ الذينَ ظلموا الصيحةُ( [ هود: 67] . و)فمن جاءه موعظةٌ من ربه( [ البقرة:275]. ؛ لأن الفعلَ إذا تقدمَ فهو عارٍ من علامةِ الاثنين والجماعة، فشبّهوا تعريتَه من علامةِ التأنيثِ بذلك. فإن كان المؤنثُ حيواناً فتقدمَ الفعلُ لم يحسنِ التذكيرُ إلا في الشعر كما قال جرير:
* لقد ولدَ الأُخيطلَ أمُّ سوءٍ * فذكّر . " اهـ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق