المشــــــــــــاهدات

الثلاثاء، مايو 22، 2012

تحليل أدبي لقصيدة أبي فراس الحمداني (أراك عصيَّ الدمع)

تحليل أدبي لقصيدة أبي فراس الحمداني
(أراك عصيَّ الدمع)

الأستاذ/ جبر بن ضويحي الفحّام
أستاذ اللغة والأدب بجامعة الجوف

عاشَ أبو فراسٍ الحمدانيُّ في أجواءٍ شديدةِ التنافسِ على الشرفِ والعزة، وإثباتِ الذات، وكان له حُسّادٌ ومنافسون من أقاربه ومن الأبعدين، وأهمهم: شاعرُ سيفِ الدولةِ المتنبي، وكانت وسيلةُ أبي فراسٍ لإثباتِ الذّاتِ، والتغلُّبِ على المنافسين تعملُ في مجالين هما: (الشجاعة والشعر)؛ لذلك تراهُ يُشاركُ بكثرةٍ في معاركِ سيفِ الدولةِ، ويُنشدُ القصائدَ في مدحِه، والفخرِ بنفسِه وقومه، وعندما وقعَ في الأسر وجدَ أن وسيلتـَه الأولى قد ضُربت، والأدهى من ذلك: أنّ أعداءه استغلُّوا هذا السقوطَ أكبرَ استغلال؛ لذا فقد حشدَ كلَّ طاقاتِه، وجمعَ كلَّ أدواتِه؛ لتصحيحِ المعادلةِ واستعادةِ الماضي، وردِّ الضائع؛ فكانت هذه القصيدة التي تطفحُ بالاعتزازِ بالنفس، والاعتدادِ بالنَّسَب، في محاولةٍ لردِّ الاعتبارِ والتشبُّثِ بالكبرياءِ والعظمة .بدأ أبو فراسٍ قصيدتَه بمقدمةٍ غزليّة تقليديّة [الأبيات 1ـ25] ولكنها عذبةٌ رقيقة جميلة، ولم يُشوِّهْ جمالَها إلا الأنانيّة الطاغية في قوله: (إذا متُّ ظمآناً فلا نزلَ القطرُ) !كما تظهرُ في هذه المقدّمة نفسيّةُ أبي فراسٍ المتعالية والمتعاظمة ، مع أن موقفَ الحبِّ موقفُ خضوعٍ وتصاغرٍ وتنازل؛ فهو لا يستجيبُ لأمرِ الهوى فيسمحُ لدمعِه بالظهور، ولا يخضعُ لنهيِ الهوى له عن الصبرِ في سبيلِ الحب:
أراكَ عَصِيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ ؟!بل يحتفظُ بكلِّ مظاهرِ حُبِّهِ وشَوقِه سراًّ في صدرهِ أو تحتَ ظلمةِ اللَّيل:
بلى، أنا مشتاقٌ، وعنديَ لوعةٌ ولكنّ مثلي لا يُذاعُ له سرُّ !
إذا اللَّيلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى وأذللتُ دمعاً من خلائقِه الكبرُ .
كما أنه علَمٌ بارزٌ فهو من الشهرةِ والتميُّزِ في مكانٍ لا يتجاهلُه إلا معاندٌ ومكابر:
تُسائِلُني: من أنت؟ وهي عليمةٌ وهل بفتىً مثلي على حالِه نُكرُ؟
وبالإجابةِ على هذا السؤال يتخلّصُ أبو فراسٍ من مقدمتِه الغزليّة إلى غرضِه الأولِ من القصيدة وهو الفخرُ بالنفس، وتعداد المزايا والصِّفات، والاستعدادُ للتحدّي والمواجهة [الأبيات 26ـ37] فيذكرُ شجاعتَه وإقدامَه وفعلَه في الحرب:
وإني لجـرّارٌ لكـلِّ كتيبةٍ مُعَـوّدةٍ ألاّ يُخِلَّ بها النصرُ .
وأنه ـ من شجاعتِه ـ لا يقاتلُ عدوَّهُ إلا إذا كان العدوُّ مستعداً للنِّزال:
ولا أُصْبِحُ الحيَّ الخلوفَ بغارةٍ ولا الجيشَ ما لم تأتِهِ قَبْليَ النُّذْرُ
.

وإذا انتصرَ فإنه ـ من شرفِه ـ لا يتعرّضُ للنّساء، بل يهبُ لهنّ انتصارَه، ثم إنه بعد هذا الانتصار بعيدٌ كلَّ البعدِ عن الكبرِ والطغيان، كبعدِهِ عن البخلِ ولو افتقر:
ولا راحَ يُطغيني بأثوابِه الغنى ولا باتَ يثنيني عن الكَرمِ الفقرُ
.وفي المقطعِ الثالث [الأبيات 38ـ 47] يعتذرُ عن سقوطه، ويحتجُّ عن أسرهِ بأنه قضاءٌ وقدر، وليس لضعفٍ فيه أو خور، بل إنه هو الذي اختارَ الأسر؛ هروباً من العار:
أُسِرْتُ وما صحبي بعُزْلٍ لدى الوغى، ولا فرسي مُهرٌ، ولا ربُّهُ غَمـرُ
ولكن إذا حُمّ القضاءُ على امْرِىءٍ فليس له بـرٌّ يقيهِ، ولا بحـرُ
وقال أُصيحابي: الفرارُ أو الردى؟ فقلتُ: هما أمرانِ: أحلاهما مُرّ
ُ
ثم يردُّ على من اتّهمه بالخوفِ من الموت بأن الإنسانَ لابُدّ ميْتٌ، ولكنه يختارُ الميتةَ التي تُبقيهِ حياًّ بعد موتِه بذكرِهِ الحسَن:
هو الموتُ فاخترْ ما عَلا لك ذكرُهُ فلم يمُتِ الإنسانُ ما حيِيَ الذّكرُ .
ثم يتحوّلُ الشاعرُ إلى العتبِ على قومه [الأبيات 48ـ 51] الذين لم يقدروه حقّ قدره، ولم يضعوه في المكان الذي يستحقُّه؛ فتأخّروا في فدائِه وفكِّ أسره، ولكن لن يفتقدوه إلا في وقتِ الشدّةِ والحاجة:
سيذكرُني قومي إذا جدّ جِدُّهم وفي اللّيلةِ الظلماءِ يُفتَقَدُ البدرُ .

ولكنّه سيُثبِّتُ نفسَه بالفعلِ الذي سيرونه، ولن يجدوا من يفعلُ مثلَ فعلِه، ومعَ عتْبِه على قومِه فإنه يرى نفسَه قطعةً منهم؛ ولذا ختمَ القصيدة بثلاثةِ أبيات [52ـ 54] افتخرَ فيها بقومِه، واعتزّ بهم:
ونحنُ أُناسٌ لا توسُّطَ عندنا لنا الصدرُ دونَ العالمينَ أو القبرُ
تهونُ علينا في المعالي نفوسُنا ومن خطَبَ الحسناءَ لم يُغلِهِ المهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلا وأكرمُ مَن فوقَ التُّرابِ ولا فخرُ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق