المشــــــــــــاهدات

الأحد، يونيو 03، 2012

من رواية ( تلك العتمة الباهرة ) - الطاهر بن جلون

أقبل يدك وأسند رأسي إلى كتفك ..لن أخبرك بما نكابده هنا . أحاول أن أنسى
أعلم أنك تعانين من قلة النوم .. وأنك تتسلقين الجبل إياه ثم تهبطينه .
انتبهي على صحة قلبك .. لا تهملي دوائك وحافظي عليه هدوءك
فلا جدوى من من استثارة أعصابك ..
إني أعبر نفقاً طويلاً .. لا أكف عن السير ..!
واثقاً أني ذات يوم سأصل إلى نهايته ..
وسأبصر النور ..
وينبغي أن يكون خافتاً .. لأن النور الساطع قد يفقدني البصر ..
وستكونين في انتظاري .."
:
لطالما فتشت عن الحجر الأسود الذي يظهر روح الموت .. وعندما أقول لطالما .. أتخيل بئراً لا قعر ،
نفقاً حفرته بأصابعي وأسناني ..
يحدوني الأمل العنيد بأن أبصر ، ولو لدقيقة ، لدقيقة متمادية خالدة .. شعاع من نور .. شرارة من شأنها أن تنطبع في مآق عيني وتحفظها أحشائي مصونة كسر .
فتكون هنا ساكنة صدري مرضعة الليالي البلاختام ..هنا في هذا القبر في باطن الأرض الرطبة المفعمة برائحة الإنسان المفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده وتنزع منه البصر والصوت والعقل ..

آه من البطء !
أول أعدائنا ..
ذلك البطء الذي كان يجعل قلوبنا خافقة على الإيقاع العذب للموت القليل ، كأن علينا أن ننطفئ كشمعة مضاءة بعيداً منا وتذوب بعذوبة الرغد ..
غالباً ما كنت أتخيل تلك الشمعة المضاءة المصنوعة لا من شمع بل من مادة مجهولة توهم بالشعلة الخالدة .. ستارة رمزية على بقائنا .
:
بقائي حياً وتعذيبي واحتضاري ، أمور مدونة على غشاء الليل ..
الليل، آه ! ملحفتي المنسوجة من غبار مجمد . فسحتي المشغولة من أشجار سود لا ترجحها ريح الصقيع إلا لتؤلم ساقي ، وأصابعي المسحوقة بأخمص رشاش .
ما كان الليل يهبط كما يقال ، بل كان هناك ، مكتنفاً طوال الوقت ، ولي عذاباتنا يعرضها لحساسيتنا إذا ما أفلحنا في أن نبطل إحساسنا ..
:
كان الليل كسوتنا ..
كا يحيطنا برعايته ..
لا أثر لنور ، لا أثر لبصيص ضياء . لكن أعيننا وإن فقدت البصر ، اعتادته . كنا نبصر في الظلمات ، أو نظن أننا نبصر .
كانت صورنا ظلالاً متنقلة في العتمة ، بعضها يعثر بالبعض ، أو يعثر بكراز الماء .. أو يطيح بكسرة الخبز اليابس التي يحتفظ بها البعض اتقاء لتشنجات المعدة ..
:

كان الليل قد كف عن أن يكون هو الليل !
فما عاد له نهار ولا نجوم ولا قمر ولا سماء . كنا نحن الليل ..
وإلى الأبد ليلية أجسادنا وأنفاسنا وخفق قلوبنا وتلمسات أيدينا ، متنقلة من جدار إلى آخر دونما جهد نبذله ، لأن المساحة جعلت مساحة قبر لحي ..
لم نكن نقيم في كنف أيما ليل ..

كان ليلاً وافداً علينا على صهوة جواد أغبر يتبعه رهط من الكلاب المسعورة ، رمى بجلبابه الثقيل على وجوهنا فما عاد يذهلنا شيء ..
جلباب ليس فيه حتى الثقوب التي يحدثها العث !
لا فقد كان جلباباً من الرمال الرطبة .
الريح على الفور تمنحنا ما يكفي لأن نبقى بعيداً من الحياة على مقربة من الموت !
كان الجلباب هذا يزن زنة أطنان ، غير مرئي لكنه محسوس !!
وكانت أصابعي تفقد جلدها حين ألمسه ..وكنت أخفي يدي خلف ظهري لكي لا ألمس الليل مجدداً ..
:

كانت لنا خيارات التفضيل بين وجعين ، ولكن ليس حقاً . فقد كان على الجسم كله أن يتوجع . كل جزء منه بلا استثناء . والقبر قد أعد ( عبارة أخرى من عبارات الحياة ، ولكن ينبغي أن نواصل استعارة أشياء صغيرة من أشياء الحياة ) بحيث يتلقى الجسم كل ضروب العذاب الممكنة ، وأن يكابدها بأبطأ ما في البطء ، وأن يبقى على قيد الحياة لكي يسأم عذابات أخرى .

كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة أمتار وعرضها متراً ونص المتر ، أما سقفها فوطيءٌ جداً يتراوح ارتفاعه بين مئة وخمسين ومئة وستين سنتمتراً . لم يكن بامكاني أن أقف فيها .

أن تكون هناك من دون أن تكون هناك .. أن يغلق المرء حواسه ويسلطها في اتجاه آخر ، ويمنحها حياة أخرى . كأني رميت في تلك الحفرة مجرداً من حواسي الخمس . وهذا ما كان : أتظاهر بأني أودعتها خزانة أمانات في محطة ما .. بعيداً عن متناول الجميع ، تعويذة مستقبل ما ..

كنت أقع في الحفرة كجراب رمل ، كرزمة لها هيئة إنسان .أقع ولا أشعر بشيء . كنت لا أحس بلألم في أي موضع مني .
لا ، مثل هذه الحالة لم أبلغها إلا بعد سنوات من الأوجاع ، وأحسب أن الألم قد يكون أعانني . الذي لا ينتهي فلشدة ما تألمت ولشدة ما تعذبت ، تمكنت شيئاً فشيئاً ، من الانفصال عن جسدي ، كنت محلقاً على الجهة الأخرى من الليل .
ولكن قبل أن أبلغ ما بلغت ، كان علي أن أسير لقرون من الزمن في ليل النفق !
:

في الحقيقة كنت حياً ! مكابداً الحياة في بؤسها المدقع ، في الاختبار الذي لا ختام له سوى الموت ، غير أن كل ذلك يشبه الحياة !

منذ ليلة دخولي الحفرة توقفت سنوات عمري . لم أتقدم في السن ، ولم أجدد صباي . من يومها فقدت سني ، فلم يعد باديا على محياي . والواقع أني ما عدت هناك لكي أمنح عمري وجها ، إذا وقف ناحية العدم .. هناك حيث لا وجود للزمن ، متروكا للريح .. مستسلما لذلك الشاطئ الواسع من الملاءات البيض التي يرجحها نسم خفيف ، موهوبا للسماء المفرغة من نجومها ، من صورها ، من أحلام الطفولة التي كانت هي ملاذها ، المفرغة من كل شيء !
لقد لذت بتلك الناحية لكي أتعلم النسيان ..
لكني لم أفلح يوما في أن أقيم بكل ما أكون في العدم ، ولا حتى بالفكر !

جاءني الشقاء مثل وعد ، مثل إعصار ، ذات يوم كانت سماؤه زرقاء ، ما غشي عيني وأفقدهما البصر هنيهات ، ومال رأسي المذهول كأنه مقبل على السقوط .

طوال ساعة أو أقل أبقيت عيني مفتوحتين ، وفمي فاغرا ، لكي أتجرع ما أمكن من الضوء ..
لكي أتنشق الضياء وأختزنه في داخلي وأحفظه ملاذا لي فأستذكره كلما أطبقت العتمة ثقيلة فوق جفني . أبقيت جذعي عاريا لكي يتشبع جلدي بالضوء ويختزنه كأثمن ما يقتني !
عند المساء ، خجلت من تلك الغبطة التي جلبها لي دفن أحد رفاقي ..
كانت تلك مكافأتنا ، وأملنا السري ، الأمل الذي ما كنا نجرؤ على التعبير عنه بكلمات ، لكنه يراود أفكارنا .
واستحال الموت شعاع شمس بهيا .
:
التذكر هو الموت !
لقد استغرقني بعض الوقت كيما أدرك أن التذكر هو العدو !
فمن يستدع ذكرياته يمت توا ..
كنا منسيين تحت الأرض ، بعيدا كل البعد عن الحياة ، وعن ذكرياتنا ..
وبرغم الأسوار التي تطوقنا ، لم تكن الجدران حصينة بما يكفي !
فلاشيء يحول دون فوران الذاكرة .
تجربة مغرية أن تستسلم لحلم يقظة يثري فيه الماضي صورا مجملة في الأغلب ، ومغبشة أحيانا ، وواضحة في أحيانا أخرى ، تتدفق دونما ترتيب أو نسق ، باعثة شبح الرجوع إلى الحياة !
مضمخة بعطور الاحتفال أو الأدهى بعطورالسعادة الاعتيادية ..
: ..
آه كم هي جميلة أشياء الحياة البسيطة ..
وكم هي مرعبة حين لا تعود هنا !
دونها المستحيل إلى الأبد !
إن الحلم الذي انقدت إليه في البداية ، كان مزيفاً . لقد جملت عمداً خامة وقائعه ، وأضفت اللون على الأسود بالمجان ..
كانت تلك لعبة وجدت بها قدراً من الوقاحة ، ومع ذلك كان من الممكن أن ألطف جلجلتي بشيء من التحدي .كنت ما زلت محتاجاً لتلك الأعذار الكاذبة لأقنع التسامح الذي ألم بي . لم أكن مخدوعاً ، فالدرب شاق وطويل ، إنه درب مريب .

كان الليل ماثلاً ليذكرنا بهشاشتنا .
أن نقاوم ما أمكنننا .. ألا نسقط .. أن نوصد أبواب كل الأبواب . أن نتصلب .. أن نفرغ أذهاننا من الماضي . أن ننظفها .
ألا ننظر إلى الوراء ، وأن نتعلم ألا نتذكر .
كان ينبغي ألا أشعر بعد ذلك بأنني معني بحياتي السابقة .. حتى لو جاءت الصور والعبارات إلى ليلي وراحت تحوم من حولي فالمفترض بي أن أطردها ، أن أزجرها ، لأني ما عدت قادراً على التعرف عليها .

كانت أحلامي خصبة . غالباً ما تزورني ، تقضي بصحبتي هزيعاً من الليل ثم تتلاشى مخلفة في قعر ذاكرتي فضلات من حياة نهارية . لم أكن أحلم لا بإطلاق سراحي ولا بما كان سابقاً لفترة احتجازي ، بل كنت أحلم بزمن مثالي ..
بزمن معلق بين أغصان شجرة سماوية ..
بلى ، أوان الخوف ، الطفل الذي يستيقظ فينا ، أما هنا فالمجنون والعاقل فيَّ يخوضان نزاعاً مريراً : من منهما سيحملني إلى أبعد ما أستطيع .. وكن أراقب ، مبتسماً .. مطمئناً ، هذا التجاذب بين الطرفين .

كنت إذا لاحت لي الذكريات وراودتني ، أبذل ما أوتيت من قدرات لكي أخمدها ، وأقطع عليها الطريق
كنت أردد بداهات كيما أنهك الصورة ريثما تتلاشى وتغرق في النسيان . حين كانت صوراً أخرى تسعى لأن تنبثق من الذاكرة ، كنت ألغيها متظاهراً بأنني أحرقها . فأقول في سري إنها لا تعنيني ، لقد أخطأت الخانة وأخطأت الشخص المعني . وببساطة لم أكن أتعرف إليها ولم يكن علي أن أفعل . وإذا ما ثابرت ، وصارت كالهاجس ، ملحاحة ، كنت ألطم رأسي بالحائط حتى الدوار . أوجع نفسي فأنسى .. كانت الضربة على الجبين تقدر على أن تكسر تلك الصور التي تلاحقني لتستدرجني إلى الجهة الأخرى من الجدار ، إلى الجهة الأخرى من مقبرتنا الخفية .
لفرط ما لطمت رأسي تورم .. لكنه صار أخف لأنه أفرغ من ذكريات كثيرة .
:
سرعان ما أدركت أن غريزة البقاء لن تسعفني للبقاء حياً ..
فحتى تلك الغريزة التي نشارك الحيوانات بامتلاكها ، قد كسرت فينا . كيف السبيل إلى البقاء على قيد الحياة في هذا الحجر ؟
وما جدوى أن يجرجر واحدنا جسده إلى النور ، جسداً محطماً مشوهاً ؟ لقد وضعنا في ظروف محسوبة بدقة لكي تمنع غريزتنا من السعي لمستقبل ما . وأدركت أن الزمن لم يكن له أي معنى إلا في حركة الكائنات والأشياء .
والحال أننا كنا محكومين بالسكون وخلود الأشياء المادية ..
كنَّا في حــاضر جامد !!

:

ولو قيض لواحدنا شقاء ، أن يلتفت إلى الوراء أو أن يستشرف ذاته في المستقبل فمعنى ذلك أنه يستعجل موته .
إذ لا يتسع الحاضر إلا لجري وقائعه ، وعلينا أن نكتفي باللحظة القارة ، من دون أن نُعمل الفكر فيها ولعل إدراكي ذاك هو الذي أنقذ حياتي .
نشويات . النشويات كآبتي ، وصحبي ، وزائري ، وعادتي القسرية ، وبقائي ، وحقدي الصميمي ، وحبي المستنفذ ، المحرق ، المرمي ، حصتي من السعرات ، جنوني الملحاح !
النشويات صباحاً ومساءً ، مثل وصفة الطبيب .
لا سبيل لتغييرها ولا تنويعها . النشويات نفسها وتكراراً حتى الموت !
على هذا النحو أمضيت ثمانية عشر عاماُ ، وبالضبط ستة آلاف وستمئة وثلاثة وستين يوماً ، لا أطعم سواها والخبز اليابس ، لم أعرف غيرها ، وينبغي ألا أقول أطعمت بل أبقيت على قيد الحياة .
:
الوجع يمنحني صفاء غير معتاد .. أتالم ولكني أعلم ما الذي ينبغي فعله لكي تتوقف هذه المكيدة ..

إن دأبي على التركيز .. على التحكم بوتائر نفسي ..
وإصراري على فكرة .. على صورة .. على حجر مقدس يبعد آلاف الكيلومترات ومئات القرون عن زنزانتي
قد أتاح لي أن أنسى جسدي .. كنت أحس به .. أتحسسه ولكني شيئاً فشيئاً ، أنفصل عنه ..
كنت أتأملني .. فأكون روحاً محومة فوق الحفرة .. لم يكن ذلك يحصل في كل مرة ..
فجهد التأمل لا يؤدي على الدوام إلى مثل ذلك الانعتاق .. الأمر مرهون بالبرودة والحرارة .
فقد كنت أدرك أن الظروف المادية ليست مواتية لمشيئة الانعتاق بالفكر من ذلك الجحيم ..

لابد من أن هناك سماء ضيقة فوق الكوة ذات الغطاء المنخل ، تلك الفتحة غير المباشرة التي ينسرب عبرها الهواء لا النور . سماء أتخيل وجودها ، أملأها بالكلمات والصور . كنت أنقل النجوم ، أربك ترتيبها كي أستبدلها بقبس من ذلك النور الحبيس في صدري ، الذي كنت أشعر به . كيف يشعر بالضوء ؟ عندما يداعب ضياء لدني بشرتي ويدفئها ، أدرك إني حظيت بزيارته . وما كنت أفلح في استبقائه . عوضاً عن ذلك يسود صمت . كان يطبق فجأة على أبصارنا الكفيفة ’ يكتنفنا ويحط مثل يدٍ حانية ولا يثقل علي .

ينبغي القول إنه كانت هناك أنماط من الصمت :
صمت الليل ، وكان ضرورياً لنا
صمت الرفيق الذي يغادرنا ببطء ..
الصمت الذي نلزمة شارة حداد
صمت الدم الذي يجري متباطئاً
صمت الصور التي تلح وتلح على أذهاننا
صمت ظل الذكريات المحترقة
صمت السماء الداكنة التي لا تكاد تهدينا لو بعلامة واحدة ..
صمت الغياب .. غياب الحياة الباهر ..
أما الصمت الأشد قسوة ، والأشد وطأة .. فكان صمت النور !
صمت نافذ ومتعدد ..
كان صمت الليل وهو دائماً إياه لا يتغير
ثم هناك لحظات صمت النور .. غيابه المتمادي الذي لا ينتهي..

كنت أحسب أن شغب الحياة من ألوان شتى ويصدر جلبة تتخلل الأشجار
ذلك الإنفراج لن يدوم إلا بعض الوقت
قليل من العذوبة لكي استعد لتركيز أكثر صعوبة

كنت أردد ذكر الله بأسمائه الكثيرة فأغادر الزنزانة ولا أشعر بقدمي تدوسان الأرض . أنأى عن كل شيء حتى لا أرى من جسدي إلا غشاءه الشفيف . أكون عارياً ، لا ما أستره ، ولا ما أظهره . ومن كنف تلك العتمات يتبدى لي الحق بنوره الساطع . لا أكون شيئاً . حبة حنطة في مطحنة هائلة تدور على مهل ، وتسحقنا واحداً تلو الآخر . فتعاودني سورة النور وأسمعني مردداً{... ظلمات بعضها فوق بعض إذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور }
تأملت وأدركت .. ربما أتخيله .
لكني أقنع نفسي بأني أبصره .
كان الصمت درباً .. سبيلاً أذكره لكي أرجع إلى ذاتي .
كنت الصمت . أحتفي به في ذلك المنعزل الضيق الذي تفوح منه رائحة العفن .
وبعد هنيهات من الصفاء التام ، أسقط مجدداً في المطحنة التي تدور وئيداً .

احك لي حكاية وإلا مت !
بلى .. أحلم بأن أسمع كلمات بأن أدخلها في رأسي وأكسوها بالصور وأجعلها تدور كدولاب مدينة الملاعب
، وأضن بها ، واستذكرها عندما أشعر بالألم ، عندما يستبد بي الخوف من الجنون ..
هيا امنحنا شيئاً من مخيلتك .

بعد نشويات منتصف النهار .. يسود صمت مطبق ، ما يشعرني بأن الجميع ينتظرون ، فأرتمي في يم الحكاية غير مدركاً سلفاً ما سأحكيه .. أو كيف ستكون الخاتمة ..!

"
كان يا ما كان رجل ثري بلغ من الثراء ما لا يعرف له مقدار غير أنه كان بخيلاً وتزوج عدد من النساء إلا أن أياً منهن لم تنجب له ولداً ..
يعلو صوت من الجهة الأخرى من المبنى :
"
مهلاً ! صف لنا النساء ........"!!!
:
بعد أن صرت رواية .. رحت أجول في فنون السرد بين القصة والشعر . فذات يوم أتخيل حكاية فوق حدود المعقول ، مغالياً في عواقب الأحداث حتى لا أعيد مستمعي إلى الحياة التي خلفوها وراءهم ..
فالمهم عندي ألا أحدد أمكنة وتواريخ . إذ غالباً ما تجري الحكاية في زمن غامض لشرقٍ خرافي ، هو الأكثر غمضاً وبعداً ..

خلال تلاوتي الفقرات الأولى من " شعر متصل " لبول إيلوار ، أربكنتني تلك الفقرة
اليوم نور فريد
اليوم ( ... الحياة ...لا ) الطفولة كلها
محيلة الحياة إلى النور
بلا ماض ، بلا غد
اليوم حلم ليل
في وضح النهار كل شيء (....ينحل .. لا ) ينعتق
اليوم إني على الدوام ..
:
كنت أردد العبارة تكراراً كأن ذكر النور الذي حرمنا منه جعلني فاقد الذاكرة . كنت أردد كل بيت من الشعر كمدرس عجوز أصابه الهوس وقد بات موشكاً على فقدان ذاكرته
.
كان الآخرون يرددون من بعدي وبعضهم يقولها بالعربية :" بلا ماض بلا غد " .
كنا بذلك كمن تستبد به رعشة العاطفة .. لشدة ما مستنا تلك الكلمات التي جعلناها ملكاً لنا ، لاقتناعنا أنها كتبت من أجلنا .. عدت للوراء وأعدت تلاوة القصيدة بدءاً من :
"
لا شيء أن يشوش قوام النور
حيث لست سوى أنا نفسي
وما أحب ..."
:
كنت مستعداً أن أترك لهم جسدي شريطة ألا يستولوا على نفسي على روحي ، على إرادتي ..
:
الريح التي حملت روحي إلى الشرق همت ساكنة . ما عاد شيء يلوح .
لا .. لا رعشة تسري في ورقة غصن . كانت تلك علامة العودة وختام الرحلة . وسوف أحيا في انتظار رحلة أخرى !
وسمعي مشدود نحو شبكة الكوة . لقد صرت شديد الانتباه إلى هبوب الهواء ، ذلك الهواء الذي يبقينا على قيد الحياة والذي بعبوره من هناك ، يحمل إلينا أخبار العالم ويغادرنا محملباً بصمتنا ، بعيائنا ، وبروائح رجال حجرتهم الرطوبة الحريفة لمعقل الاحتضار حيث ينبغي

أن نبقى واقفين !

لطالما نسيت أن لي أب ..
:
إني أصلي كثيرا .. أصلي إلى الله بغية أن أصرف نفسي عن العالم .ولكن العالم يُختزل بحفنة ضئيلة من الأشياء . إني لا أناضل ضد العالم بل ضد المشاعر التي ترود جوارنا لكي تجذبنا إلى بئر الكراهية . إني لا أصلي من أجلي ،وليس رجاءً بشيء بشيء ...بل دفعاً لشقاء البقاء . أصلي دفعاً للقنوط الذي يُهلكنا . .
:
صور كثيرة كانت تترى في ذهني . تتمازج ، تهتز ، تقع على الأرضية أو ترحل نحو أفق رمادي صور بالأبيض والأسود . كان رأسي يرقض أن يستقبل لوناً . أرى أبي سائراً محني الظهر كأنه يهم بالتقاط لقية ثمينة ، وأمامه .........
:
أتدري يا أنت الفاقد الصبر ، المحرق بالوقت على الدوام ، من لا يني الليل القار ، المؤمن بأن الموتى ممثلون يؤدون أدواراً على خشبة مسكونة بالظلال والأشباح ، من قلقة يتعاظم في الظلمات ، اعلم أني لست سوى خبر شائع ، نار متنكرة بالضياء ، قول يخرج من أحشائك ثم يهوي في البئر .
:
كنت قد لزمت الصمت .. مقتنعاً بأني صرت كتاباً لن يفتحه أحد !
:
إذا كنت قد أفلحت في مقاومة الإحباط وإذ ارتضيت أن أخوض الصراع ضد نفسي ، فقد كنت أسأل نفسي أحياناً عن مصدر الحيوية التي يستقوي بها جسمي وروحي ..!
لم يكن الألم هو الذي أشار علي بالطريق الذي أسلكها ، بل أنا ذاتي قبل أي ألم . وبصرف النظر عن أي ألم ، كان ينبغي أن أنتصر على شكوكي ، ومكامن ضعفي ، خصوصاً الأوهام التي يعذبها كل كائن الاطمئنان إلى الصور التي تزيف الواقع ، فالضعف يكمن في آن تصبح متواطئاً مع كذبة تنطلق من ذاتك لترتد إلى ذاتك ، فتحسب أنك ، بذلك خطوت خطوة إلى الأمام ..
والحال أنك إذا شئت أن تسير قدماً في تلك الصحراء ، فلا بد لك من الانعتاق من كل شيء ، وأن تدرك أن الفكرة وحدها التي تنعتق من كل شيء ، كفيلة بأن تفضي بك إلى لطائف الدعة التي قد يكون اسمها الوجد .

في عهد الطيش ، كنت أغالي في تقدير نفسي . .
كنت أحرق المراحل .. يومها ، لم تكن الحياة بالنسبة لي سوى بداهة جميلة ، وكذلك الأمر السعادة ..
كنت مخطئاً ..
فلا شأن للذات إلا في نظر الآخرين ، ودون ذلك مشقات اجتياز الصحارى والليالي ..
فآليت على نفسي أن أن أحيا التجربة من دون شكوى . وما لمت إلا نفسي في كنف الصمت بين صلاتين ..
:
بفضل الصلاة كنت أبلغ أفضل ما في بتواضع من ينفصل شيئاً فشيئاً ، عن جسمه مبتعداً عنه لكي لا يكون عبد عذاباته وشهوات هذيانه .
كنت قد بلغت حالاً من التخلي والزهد اللدني الذي يمدني بعزاء لا يستهان به . أصبحت شخصاً آخر . أنا الذي آمنت في السابق بأن الكائن لا يتبدل ، كنت في مواجهة أنا آخر منعتق من كل قيود الحياة المصطنعة ، لا حاجة له إلا إلى شيء ، غير طامع بأي رأفة . كنت عارياً .. وكان ذاك فوزي ..
:
كنت أصلي بصوت خفيض وأنقاد مستسلماً لموسيقى داخلية توائم الحال التي أكون فيها ، فلا أعود أسمع ما يقال من حولي ..
قبيل النهاية لا يعود جسمي طوع مشيئتي إذ يغادرني هو !
وعندئذٍ أنام متقوقعاً على ذاتي مثل هر . أتمسك به . أتشبث بالأرض لكي أمنعه من هجري كلياً . لا أعود قادراً على التفكير . لا أعود قادراً على تخيل أي شيء .. أصبح خاوياً ، أصبح زيغاً في تلك الحفرة التي ابتلعت إلى اليوم خمسة عشر رفيقاً من أصل ثلاثة وعشرين . لكل شيء حده . رأسي ما عاد يعقل ..أو بالكاد يفعل !

مضت ثماني عشرة سنة تقريباً لم أنظر خلالها إلى وجهي في المرآة ولو مرة واحدة . من أو ماذا أشبه ؟ عندما أفلح في رفع في ذراعي ، أمرر راحة يدي ببطء على وجهي . ومثل ضرير تنبئني أصابعي .
:
صرت حارس الصمت .. رافضاً التفاوض مع ليل الأمل الطويل . كان ينبغي أن نحيا ذلك الليل من دون اجتناب أشراكه ، ومن دون التشبث بالحجارة ، ومن دون التهام التراب الرطب ..
وعلمت أن بامكاننا اعتياد العيش كل شيء ، حتى العيش بلا وجه ، بلا أمل !

في تلك الليلة ، كنت أخوض آخر معاركي ، واستغرقني ذلك بضع ساعات . كانت مخالب الموت تجذب قلبي لكي تنزعه فيما أجذبه في الاتجاه المعاكس لكي استبقي الحياة ..!
لم يكن في نيتي بعد ثمانية عشر عاماً أن أدع الموت يتفوق على في معركتي . كنت أعلم أني سأفوز .
كنت وحيداً مع أوجاعي ، وحيداً مع أفكاري ، وحيداً مع جسدي الذي بلغ التلف منه حداً جعله غير ذي منفعه حتى لتجارب العلم .

كنت وحيداً ومرهقاً تشوه كتفي واحدودب ظهري وتجوف بطني وحُزمت أفكاري ، وعلقت في حيز محايد ، لا أسود ولا أبيض ، كأنما وصلت إلى نهاية شيء ما ..
:
كان الفراغ الذي خلفه الراحلون عنَّا يجعل للصرخة أصداء تتردد في كل الأرجاء ..
كأنها قصف رعد متماد في سماء معتمة ..
:
"
سيدي الملازم أول ، ستكون أفضل حالاً لو استلقيت "
منذ عشرين عاماً لم أسمع أحداً يخاطبني ذاكراً رتبتي !
ساعدني على التمدد بالسرير ..
جعلت الأرض ترجح يمنة ويسرة ، الجدران تتقدم ثم تتراجع . أحسست بأني أهوي في الفراغ ..
وذكرني ذلك بقفزتي الأولى بالمظلة ، إذ شعرت بهلع خفيف في موضع القلب ، أما هناك فقد كان الهلع غامراً كأن المظلة لم تقذف .
كان جسمي مشبعاً بالجراح من كل صنف ونوع .. نفسي متعافية ، لا بل أقوى مما كانت في السابق !
لكن جلدي تالف إلى أبعد حد . تمكنت من الوقوف ..
كنت أقف كما في زنزانتي منحنياً .. كان السقف عالياً لكني أراه خفيضاً !
استلقيت على الأرض .. كانت صلبة وباردة فأشعرني ذلك بالأمان وصار بإمكاني أن أنام !!
أن أغرق في أكثر الليالي عمقاً ..
:
سوف يبقى ذلك اليوم يوماً تاريخياً في حياتي : ففيما كنت أستلقي على كرسي طبيب الأسنان المتحرك ، أبصرت شخصاً ما فوقي ..
من كان ذلك الغريب الذي يحدق بي ؟
كنت أرى وجهاً معلقاً بالسقف ..
كان ذلك الوجه المثلم ، المخطط بالتجاعيد والغموض المذعور المرعب ، كان وجهي أنا !
للمرة الأولى منذ ثمانية عشر سنة أقف قبالة صورتي ...
أغمضت عيني .. أحسست بالخوف ..
خفت من عيني الزائغتين ، من تلك النظرة التي أفلتت ، ىبمشقة ، من الموت
من ذلك الوجه الذي شاخ وفقد سيماء إنسانيته ..
:
حتى الطبيب لم يخف دهشته . قال لي بلطف :
"
أتريدني أن أغطي المرآة ؟
-
لا شكراً . سيكون علي أن أعتاد هذا الوجه الذي حملته من دون أن أدرك كيف يتغير ..!
:
أمي :
كانت في أيامها الأخيرة لكنها لا تشكو ..
"
لن أجرؤ أبدأعلى الشكوى أمامك . يا بني إني أدرك ما قاسيته !
إني أعلم مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يأذوا بشراً آخرين ..
سروري كبير لأني رأيتك .."

أبي :
وصل متأخراً كعادته .. كان مصحوباً بزوجته الشابة !
"
أو تدري يا بني إنه لم يكن في يوم من الأيام ، أباً لأي من أولاده ..
يحبهم ..
لكن ينبغي ألا يطلب منه أكثر من ذلك ..
لطالما كان على ما هو عليه الآن ..
يجب ألا تحقد عليه .. قل لي أن تزمامارات لم يكن موجوداً في يومٍ من الأيام ؟ "

هذا ما يقال .. لكن ما لفرق صحيح إنه لم يوجد يوماً ما .
ولا رغبة لي على الإطلاق في الذهاب إلى هناك للتثبت من الأمر ..
يبدو أن دغلاً من شجر السنديان العتيق قد انتقل وغطى الحفرة الكبيرة ..
ويقال أن البلدة نفسها ستغير اسمها ..ويقال ... ويقال ..
:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق