المشــــــــــــاهدات

الخميس، أبريل 19، 2012

الفرق بين يشرب منها ويشرب بها

قال تعالى:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴾(الإنسان:5- 6) ، فأخبر سبحانه عن الأبرار أنهم يشربون من كأس ممزوجة بالكافور ؛ لبرده وعذوبته وطيب عرفه . وجيء بـ( كان ) في جملة الصفة لإِفادة أن ذلك الكافور هو مزاج الخمر ، لا يفارقها أبدًا . ثم أبدل تعالى منه قوله :﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ ، فدل بذلك على أن هذا الكافور تجري به عين في الجنة ، من زيته ، وهو شرابه المستَخرَج من شجره . ومعنى كونه عينًا : أن شرابه المستخرج منه كثير كماء العين .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا قال تعالى في الآية الأولى: ﴿ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ﴾ ، فذكر الأداة ( من ) ، وقال في الآية الثانية :﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا ، فذكر ( الباء ) ؟ وهل من فرق بينهما ؟ والجواب عن ذلك :
أولاً- أن الأصل في فعل الشرب أن يُعَدَّى إلى المفعول بنفسه ؛ كقولك : شربت الماء ، وشربت الحليب . وكثيرًا ما يحذف ذلك المفعول للعلم به ؛ كما في قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (الواقعة:68) . أي : الماء الذي تشربونه ، وقوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي (البقرة:249) . أي : فمن شرب الماء من النهَر .
ولما كان لفظ ( الكأس ) في اللغة يطلق تارة على الإناء الذي فيه الماء ، ويطلق تارة أخرى على الماء الذي في الكأس ، حسُن تعدِّي فعل الشرب إليه بنفسه ؛ كقولك: شرب كأسًا . والمراد : ماء ؛ لأن مفهوم الكأس يتقوَّم بما في الإِناء من الماء .
وحملوا على هذين القولين قوله تعالى :﴿ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ﴾ ، فقالوا : يجوز أن يراد بالكأس : آنية الخمر ، فتكون ( مِنْ ) لابتداء الغاية . ويجوز أن يراد بها : الخمر ، فتكون ( مِنْ ) للتبعيض . والقول الأول أفصح ، وأبين ؛ لأن ( يشرب ) لا يُعَدَّى إلى المفعول بـ( من ) ، خلافًا لمن زعم ذلك . وعليه يكون المعنى : يشربون الخمر من كأس ممزوجة بالكافور . و( من ) لابتداء الغاية . أي : إن الكأس هي مبدأ شربهم ، وأول غايته .
ثانيًا- وأما قوله تعالى :﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ فالمراد به : أنهم يمزجون شرابهم بها ؛ فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر . أي : يشربونه ممزوجًا بمائها ؛ كما تقول : شربت الماء بالعسل . ولإفادة هذا المعنى جيء بهذه ( الباء ) التي هي باء الإلصاق . وأما قول من قال : إن ( الباء ) زائدة ، أو هي بمعنى :( من ) ، أو هي للتعدية ، وأن ( يشرب ) مُضَمَّن معنى :( يرتوي ) ، أو ( يتلذَّذ ) ، وأن هذا من روائع الإِيجار في القرآن ؛ لأن جملة واحدة أغنت عن جملتين ، فليس بشيء ؛ لأن ذلك كله مجرَّد أقوال متكلَّفة ، لا تقوم على دليل ، فضلاً عن أنها خروج بالآية الكريمة عن المعنى المراد منها . والله تعالى أعلم !
بقلم : محمد إسماعيل عتوك 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق